فصل: أسلوب القصص في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.ميزان العدالة في الحكم:

86 - ويبين الله سبحانه وتعالى - بطريق القصص القرآني - لأنه من تصريف البيان كما أشرنا - أنَّ مقياس الحكم العادل إدراك الحق، وألَّا يجعل القاضي أو الحاكم للهوى سلطانًا في الحكم، فإن كان الهوى كان الشطط في الحكم، ومظنَّة الوقوع في الظلم، وإن كان الحاكم لا بُدَّ أن يكون مدركًا للحق فلا بُدَّ من عنصر العلم وإبعاد الهوى.
واقرأ قصة داود عليه السلام الذي أعطاه الله الملك والحكمة، فاقرأ العبارات السامية التالية: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ، يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 21 - 26].
هنا نجد القصة عن نبي الله داود عليه السلام تتضمَّن ثلاثة أمور في التنبيه على كل و احدة منها تنبيه إلى أمثل الطرق للوصول إلى العدل في الأحكام.
أولها: إنَّه سبق إلى الحكم من غير أن يستمع إلى كلام الخصم، فقضى لأحد الخصمين، قبل أن يستمع إلى كلام الآخر، فإن ذلك مدرجة الظلم، بل قد يكون ظلمًا.
ثانيها: إنَّه لم يكتف بالحكم في القضية المعروضة، بل عمَّم الحكم، والقضاء يكون في القضية المدروسة ولا يتجاوزها.
الأمر الثالث: وهو يفصل التفرقة بين الحكم الظالم والحكم العادل، أن الحكم العادل لا يكون بالهوى والشهوة، وأما الحكم الظالم فإنه يكون تحت سلطان الهوى والشهوة. وأن الملوك والحكام المستبدين يكون مصدر شرهم أهواؤهم، فهم يتبعون أهواءهم فيما يحكمون به، وما ينزلونه بالناس، فهم يسنون النظم تبعًا لأهوائهم ويطبقونها تبعًا لأهوائهم، ويجعلون شيعتهم تسارع إلى تنفيذ أهوائهم، ولا يفهمون المصلحة إلا تابعة لأهوائهم، فإذا نهى الله تعالى نبيه داود عن اتباع الهوى وهو خليفة حاكم، فإنما نهاه عمَّا يؤدي إلى فساد الحكم، وبهذا يتبين أن حكم الهوى كان مصدر فساد الحكم في الماضي، كما هو مصدر الفساد في كل الأزمان، وذكر ذلك في قصة من قصص القرآن يزيد المبدأ تبينًا وتأكيدًا، وقد بيَّنَّا أن ذكر أيّ أمر في قصة يجعله يسري في النفوس، ويدخل إلى الضمائر إن كان فيها استعداد للحق.
ولا شكَّ أن هذا كله يدل على أن القرآن يصرف فيه سبحانه البيان تصريفًا ليكون أقرب إلى التأثير والدفع إلى العمل، وليس ذكر القصص للعبرة فقط، بل هو مرشد وهادٍ مع ذلك إلى أقوم السبيل، والله أعلم.
بيان بعض الأحكام بالقصص القرآني:
87 - من صور التصريف البياني بالقصص القرآني بيان بعض الأحكام الشرعية، فإنَّ ذلك يثبت هذه الأحكام ويدعمها؛ لأنها تكون أحكامًا متفقًا عليها في كل الشرائع السماوية، وبيان أنها غير قابلة للنسخ، وأنها مؤكدة ثابتة، وفي القصة تكون حكمة شرعيتها قائمة والغاية منها ثابتة، ولنذكر من قصة قابيل وهابيل ولدي آدم.
فقد قال الله تعالى فيها: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 27 - 31].
هذه القصة تثبت أن الغيرة والحسد يؤديان إلى الاعتداء، وأن ذلك يحدث بين أقرب الناس بعضهم لبعض، وأنه لا علاج للحسد بإخراجه من النفوس، فهو فيها دفين، نعم إنه مرض، ولكنه مرض لا يمكن أن يكون منه شفاء، والناس ليسوا سواء فمنهم شقي وسعيد.
وإذا كان الأمر كذلك فلا علاج إلَّا ببتر من استكن في قلبه الحسد، وصار من شأنه التعدي استجابة له، والاعتبار في النظم لصلاح الجماعة لا لصلاح الآحاد فقط، ولذلك قال الله تعالى عقب ذكر قصة ولدى آدم: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32].
وإنا لنرى هذا القصص المحكم قد ارتبط فيه الحكم بسببه، فهو في جزء من القصص ذكر سبحانه ما كان بين الأخ وأخيه من محاربته فطرة الأخوة الرابطة، وأنه حمل نفسه حملًا على ارتكاب جريمته؛ إذ هي مخالفة للطبائع السليمة، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُه} حتى إذا تمَّت الجريمة رأى بشاعتها في جثة أخيه، فأراد أن يواريه فضَلَّ، حتى رأى غرابًا هو أحنّ على أخيه منه، وهو أعلم كيف يواري سوءة أخيه.
وما كانت أمور الناس لتترك فوضى، يجرم من يجرم ثم يندم، فكانت شريعة القصاص؛ لأن الاعتداء بالقتل اعتداء على حق الحياة في كل إنسان، ومن قتل نفسًا بغير حق فهو على استعداد لقتل غيرها، ففي عمله تعريض النفوس الإنسانية لاعتداء المعتدين المفسدين، ومن أحياها بالقصاص من القاتل، فكأنما أحيا الناس أجمعين، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} [البقرة: 179].
وإن هذا يدل على أن شريعة القصاص شريعة أزلية خالدة باقية، وأنها كانت في الشرائع السابقة، ولم تخل شريعة من شرائع النبيين الكرام منها، ولقد ذكرت بحكمتها ونتيجتها، وهي إحياء للأمة وإهمالها إماتة لها.
ولا شك أنَّ ذلك تصريف بياني قرآني في بيان الأحكام:
وقد جاءت الأحكام أكثر تفصيلًا في بيان القصاص في الأطراف مع النفس في قصص عن بني إسرائيل، والتوراة وما جاء فيها، ولنتل على القارئ الكريم بعض ما جاء في ذلك، وإن كنَّا سنتلو أكثر مما تلونا من الماضي، ولقد قال الله تعالى في وصف بعض بني إسرائيل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرادوا أن ينفروا من حكم التوارة في مجرم ارتكب جريمة، لاجئين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حاسبين أن عنده حكمًا أخفّ من حكم التوراة لهوًى في نفوسهم. قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَْ} [المائدة: 42 - 50].
وترى من هذا النص الكريم بيانًا للأحكام الشرعية الخاصة بالقصاص في تفصيل محكم مستقر مقنع، فهو يجعل القصاص في الأطراف، كما هو ثابت في النفس، بل إنه يثبت القصاص في الجروح، ويوثق الأحكام بأنها نفذت في الإنجيل؛ إذ جاء الإنجيل مصدقًا لما بين يديه من التوراة، ويوثقها بأن القرآن مصدق لما جاء في التوراة، ولكن له هيمنة وسلطان، يبقي ما يبقي، وينسخ ما ينسخ، وما يثبت أنه نسخ من أحكامها فهو منسوخ؛ لأن له الهيمنة الكاملة.
وفي القصاص الشريعة باقية، وفي التوراة كما هو في القرآن جواز العفو عن القصاص؛ إذ يقول سبحانه: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَه}، والقصاص ثبت بالقرآن، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178، 179].
وهكذا نجد ذكر الأحكام الثابتة التي لم يعترها تغيير ونسخ بطريق القصص نوع من تصريف البيان وتثبيت الأحكام.

.أسلوب القصص في القرآن:

88 - قد ذكرنا في القول الأسبق ما يختص به أسلوب القرآن من صور بيانية في ألفاظه، فكل لفظ يعطي صورة بيانية يناسب المقام الذي ذكر فيه، ويتجمع من الأسلوب صورة بيانية تكون الصورة اللفظية أجزاء فيها، وإن كان لها صفة الاستقلال، ومن المجموع تتكون صور تصوّر المعاني، ويكون لها أطياف في اجتماعها وانفرادها.
وذلك ثابت في أسلوب القصص، كما هو ثابت في كل أساليب القرآن الكريم من غير تخصيص فيها، بل كلها درجة واحدة يعجز البشر عن أن يصلوا إليها، فكل لفظ له إشعاع نوراني يشع منه، وكل جملة ينبثق منها النور الإلهي الذي تنطفئ بجواره كل الأنوار.
ومع هذا فالقصص القرآني باعتباره قصصًا، فيه إخبار عن أمم ووقائع وأنبياء يجادلون أممهم وأشخاص يعاندونهم، وأن القصص يمتاز مع الصور البيانية التي تنبعث من الكلام مجردًا، يصور أخرى تصور الأشخاص والوقائع والمشاهد، فإذا ذكرت حال شخص صور تصويرًا واضحًا كأنك تراه وتشاهده، والعبارات تصور حاله من خوف، أو حنان، أو انزعاج أو جحود، وكأن المعاني صور واضحة في الشخص المتحدث عنه، ولو أن مصورًا متحركًا يصور الشخص في مشهد من مشاهد الذعر، ما كان أكثر تصويرًا من الألفاظ القرآني والأساليب في تصويرها.
ولنذكر في ذلك بعض ما تلونا من قبل، لنعيد تلاوة حال أم موسى وقد ولدت ولدها، وهي تعلم أن فرعون يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، وتضطرها الفطرة الملهمة التي كانت بمثابة وحي أو هي وحي لها أن تلقي ولدها في اليم؛ لأنه خير لها أن يلقى لقدر الله تعالى وقضائه، من أن يذبح بين يديها، وهذا ما نعيد تلاوته، وما أطيب القرآن في إعادة تلاوته: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 7 - 12].
إن القصة ترينا صورة أم مضطربة منزعجة خائفة لما أثقلت ألقت حملها، فإذا أثقال جديدة، إنما تريد نجاته، فيعلوها الاضطراب والخوف والفزع، وإذ الإلهام يجيئها بإلقاه باليم مع إثلاج قلبها بألَّا تخاف وألَّا تحزن، ومَنَّ الله تعالى عليها بالاطمئنان بأنه سيعود إليهًا، وهكذا يكون الاطمئنان في موطن الخوف، والقرار في موطن الاضطراب، والسكون في موطن الهلع، يغيب عنها فلذة كبدها فيفرغ قلبها، ويغلب الفزع على الاطمئنان وهي تغالب حال الفزع بحال الاطمئنان إلى أن وعد الله تعالى بالاطمئنان، ويصطرع الأمران في نفسها، يغلب الإلهام فتطمئن، ويغلب الفزع القل تبدي أمرها وتظهر سرَّها، ولو علم به أعداؤه وأعداؤها أعداء الله تعالى؛ ولكنَّ الله تعالى يربط على قلبها بالصبر وهي تصبر، ولكنها لا تسكن بل تتحرك بعمل، فترسل أخته لتتقصى أخباره، وتتعرَّف أحواله، فترى المعجزة الكبرى؛ إذ يمتنع عن المراضع، حتى يعود إلى أمه وتأخذه أخته إلى الأم التي تضطرب بين اليأس والرجاء، بين الأمل الباسم والحرمان الدائم.
اقرأ النص القرآني، وتراه مصورًا لحال تلك الأم الرءوم، فهل تجد مصورًا متحركًا أو واقفًا يستطيع تصوير هذه الحال، ولكنه القصص القرآني المصور الذي نزل من عند الله تعالى.
89 - ولنعد إلى قصة موسى وقد تربَّى في قصر فرعون، حيث الترف والبطر، وفي جو الغطرسة والسلطان ومن يدَّعي لنفسه الألوهية، فهل شعر موسى بما يشعر به المترفون المسرفون الذين يستعبدون الناس، ولكنه في الوقت ذاته كان يعيش في أحضان قومه، حيث كان على كثب ممن يقتل فرعون أبناءهم ويستحي نساءهم، فهو البعيد عنهم بحسه القريب منهم بنفسه، يعيش معهم وإن جفاهم في المسكن والإقامة، ولذلك كان القريب في قصر فرعون المستأنس بمن يئويهم فرعون، فيعيش معهم.
ولقد بدا ذلك على أكمله يوم أن بلغ رشده، , واستطاع أن يخرج من محبس فرعون في النعم، ويلاقي الحياة التي يلاقيها قومه، ولقد قص الله سبحانه وتعالى - قصصه بعد أن بلغ رشده، وصار رجلًا سويًّا، في أسلوب ينُمُّ على الرغبة في الجهاد وتحمل شدائد الحياة، فيقول سبحانه في أحسن قصص مصور: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 14، 15].
خرج موسى من المحبس، ودخل المدينة، وأهلها لا يتوقعون أن يخرج رجل في ظل القصر، إلى حيث الشعب، ينازل من ينازل ويسالم من يسالم، إلى حيث الحياة اللاغبة العاملة، فكان ذلك مفاجأة، عبر عنها القرآن بقوله: {عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا}، وخرج ونفسه مملوءة غيظًا على الذين كانوا أداة في يد فرعون يسوم بهم الناس عذابًا، فوجد مصريًّا يقتل واحدًا من شيعته، فسارع إليه دفاعًا عن اليهودي المعتدى عليه، فاندفع فقتل المصري.
ولكنه قد استرجع ضميره الذي كان في غفوة بسبب العداوة المستحكمة بين العنصرين، وبسبب ما رأى من فرعون ومن معه من جند وأشياع، وأهل مصر صامتون كدأبهم عندما يرون ظلمًا عنيفًا صارخًا يقفون كالنظارة، لا يتحركون لظلم واقع، ولا لهم مستحكم مانع.
وتكررت المأساة بين اليهودي الذي استنصره بالأمس ومصري آخر، فيقوى صوت الضمير على استغاثة اليهودي، ويعلم أنه فرعوني ضالّ كثير الشكاس، وأن المصري مظلوم في معاملته، ولكنه مع ذلك تغالبه في نفسه مشاعر، فهَمَّ بأن يبطش بالذي هو عدوّ لهما، عندئذ نطق المصري لائمًا مذكِّرًا موسى بأنه يريد أن يكون جبارًا في الأرض، وما يريد أن يكون من المصلحين الذين يعلمون على الإصلاح بين المتخاصمين من غير إضافة اعتداء إلى اعتداء، ويقول له من عتب لائم: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19].
وموسى في نفس حائرة بين عزِّ الدنيا وقد تركه وراء ظهره، و جعل نداءه دبر أذنه، وبين الحق والعدل والإخلاص وهو إلى الثاني يميل، ومن الأول ينفر، وبينا هو على هذه الحال يتردّد بين ماضٍ مريح، وجديد يريد أن يخوض في شدائده؛ ليعيش كما يعيش قومه، فيشاركهم في ضرَّائهم وإذا النذير ينذره: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20]، قضي الأمر وانتهت الحيرة، واستقبل الحياة الجديدة بلأوائها وجهًا لوجه، ولنترك القول لكتاب الله تعالى يذكر لنا حاله من بعد ذلك الإنذار؛ إذ نجد التصوير الذي تعجز عنه كل أدوات التصوير الساكن والمتحرك، وهو يصوّر موسى قد أحس بخطر قوم فرعون، وفرعون وآل مصر يترقبونه، فالله يقول في كلام مصوّر للأرواح والأشباح: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 21 - 24].
تصوير للحيرة، قريب النعمة خائف يترقب المتتبع والمترصد، ويتوجه من ريف مصر وخضرته إلى لفح الصحراء وجدبها، ثم هو يحس بالحاجة وهو الذي كان يتناول ويرمي؛ وإذ لفحته الشمس أوى إلى الظلِّ، لا يرجو إلَّا الله، ويعلم أن الله تعالى لا يتخلَّى عنه.
وإني مهما أحاول من تصوير للقصة بعبارتي، فلن نصل إلى ما يقع في نفس القارئ إذا تلاها مجردة من غير تعليق عليها، إنها تصور ربيب النعمة في صورة كأنها المرئية، وكأنها مشاهدة محسوسة، وليس أخبارًا مكتوبة أو متلوة.
إنه حائر، فيفاجأ بإحدى المرأتين تأتيه تمشي على استحياء، وهي تدعوه إلى أبيها ليجزيه أجر ما سقى لهما، ويذهب الشاب القوي إلى الشيخ الضعيف، وهنا يرى الشجرة الوارفة في وسط الصحراء، ويجد الحياة الزوجية وراحة الحياة بعد شقائها، ويذوق طعم الدنيا، ولم يكن في بيت فرعون يذوقها، ذلك أنَّ النعيم معنى نسبي لا يذوقه إلا من ذاق الألم في هذه الدنيا، والنعيم من غير ألم يرنقه يكون راحة عفنة، فموسى عليه السلام بعد أن نال عيشه بالكدِّ واللغوب، وعاش بين الرجاء والخوف أحسَّ بطعم الحياة ومعناها، وتأهَّب للرسالة؛ لأن الرسالة لا تكون إلَّا لمن اصطفاهم الله تعالى ممن ذاقوا طعم الحاجة وعزة الحق، ولم يترفوا بالنعيم، وكذلك أمر النبيين والصديقين، وكذلك كان تاريخ كل الأنبياء، وخصوصًا أولي العزم من الرسل.
هذا، وإنَّا نطالب القارئ أن يقرأ أيّ جزء من قصة موسى، فإنك تراه مصورًا للموقف الذي يعرض له أبدع تصوير؛ وكأنك تشاهد، ولا تسمع وتتلو، وإنه لهو القصص الحق.
90 - وإنك إذا قرأت مجادلة المشركين مع نبي من الأنبياء، كنوح وإبراهيم وعيسى وشعيب وهود، تحسّ بأنك تشاهد مشهدًا مرئيّا، لا أنك تستمع إلى كلام متلوّ، فتنتقل أنت وعقلك وجوارحك كلها إلى هذا المشهد الكريم الذي يصور عقلية الذين يجالدون، وما يبذله الرسول، وما يتحمّله في سبيل إقناعهم أو إلزامهم كلمة التقوى، ولا يريدونها، اقرأ مجادلة نوح عليه السلام لقومه، وهم يجادلون في الله، ونوح يريد أن يهديهم بأمر الله تعالى، واتل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ، قَالَ يَا قَوْم أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ، وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ، وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين} [هود: 25 - 33].
هذا مشهد من مشاهد القول تجد فيه مناقشة قوية بين دعوة الحق، وجحود أهل الباطل، وتراه كأنَّه مصور أمام البصيرة، وترى فيه صاحب الحق يدلي بالبينات، والحق وحده أبلج، وترى فيه أهل الباطل يتخذون من الحس دليلًا على الحق، وحسهم كاذب، فيستدلون على أنَّ الدعوة ليست دعوة حق بأنَّ أتباعها الفقراء الأرذلون في أعينهم الذين يزدرونهم، والنبي عليه السلام يجادلهم بالتي هي أحسن، وهو يسوق البينات، ولكنهم يتبرَّمون بدعوة الحق.
ولا شك أنَّ العبارات تدل على المعاني المقصودة فقط، بل وضعت الألفاظ ومعانيها وأطيافها في بيان مصوّر يسكن به الخيال والنفس، كأنَّه واقع محسوس لا قصص متلو فقط.
وبعد ذلك بَيِّنَ الله تعالى لنوح أنَّهم لا يؤمنون، ولم يبق إلَّا إنزال العقاب بهم، واقرأ صورة العقاب تراه قصصًا مجردًّا، ولكنَّه مشهد واضح بيِّن يصل إلى درجة المرئي للقارئ المتنبه، اقرأ قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ، قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 36 - 48].
ذلك هو بعض قصص نوح عليه السلام من وقت أن يئس من إيمانهم وأخبره ربه العليم الحكيم أنَّه بلغ الحجة وحقق الرسالة، وأنَّه لن يؤمن أحد من قومه لم يكن قد آمن، وأن العقاب نازل لا محالة، وترى كل نص من نصوص هذا الجزء من القصة مصورًا بيانيًّا لما أنزله تعالى، فترى جزءًا يصور كيف أخذ نوح يبني سفينته، والقوم ينظرون إليه ساخرين غير عالمين بالعاقبة التي تنتظرهم، والغاية التي قدرها الله تعالى من هذا البناء والخيال يرى الصورة من وراء العبارات كأنَّها بين يديه حقيقة بالعيان وليس خبرًا من الأخبار، وإن كان يذكر من أعلى صور القصص المصور. ثم ترى الإيذان بالابتعاد عن موطن الغرق، وقد فار التنور، وإنِّي قد أدرك من هذا أنها كانت تسير بالبخار إذا فار التنور فتحرَّكت بعد أن فار، والله تعالى أعلم بمراده، وإن كان اللفظ دالًّا، بل هو مصور لتنور فار فحرَّك ببخاره ما حرك من آلات تسير السفينة، وتجري بهم في موج كالجبال، والقارئ يرى في هذا صورًا تثير الخيال، وتجعل الخبر مرئيًا أو كالمرئي، وإن ذكر الموج في هذا المقام يصور كيف كان السيل عارمًا، وأنه لم يكن غيثًا، حتى لم يبق إلّا من خرج بالسفينة نجيا.
ثم نجد في ذلك القصص أمرًا معنويًّا مصورًا كأنه ملموس، وهو حنان الأب ورفقه بولده، فقد رأينا في النبي المجاهد عاطفة الأبوة تعلو؛ فينادي ابنه، وكأننا نسمع النداء في مشهد من مشاهد الأبوة، ثم نجد الابن وقد غرَّه غرور الصبا، والابتعاد عن التصديق، حتى حسب أنه بمنجاة من الغرق؛ إذ اعتصم بحبل آوى إليه، وحال بينه وبين أبيه الموج، فكان من المغرَقين، والأب تنفطر نفسه، فتغلبه شفقة الأبوة عن رؤية أمارات الموت، ويتَّجِه إلى ربه باكيًا حزينًا إذ نجا أهله إلّا ابنه فيقول، وكأنَّنا من فرط التصوير نسمع أنين الأب، بعد أن نجا كل من في السفينة، وقد استوت في طريقها وهلك ظالمون، يضرع إلى ربه يقول: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}، وكان قد وعده ربه بأن ينجي أهله، فيقول: إن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين، وهنا نجد رب العالمين يبيِّن أنه داخل في عموم الكافرين؛ لأنه كفر، وأهلك هم الذين آمنوا، ولم يعارضوك، ويقول سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
تعارض العطف مع الو اجب، فتحت قوة العاطفة الأبوية نطق بما نطق فنبهه الله تعالى إلى الواجب، ولم ينبه غافلًا، ولكنه نبَّه يقظًا مؤمنًا ضارعًا وإن كان قد ناجى ربه بصوت البشرية، فتاب و{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.